والآن أبين لكم من بعض واقعات أرى في تبيينها خيرا وبركة، وتفهيم ما لا تعلمون بعلم اليقين.
فاعلموا يا سادة أنّ آبائي – كما ذكرت فيما مر- كانوا من عظماء الحراثين، وكانت صناعتهم الفلاحة، وكانوا من أهل الإمارة والقرى والأرضين.
وكانوا في هذه الأرض ثاوين في الكفرة الفجرة، فصُبّت عليهم ما صبت، وقد ذكرناها من قبل للناظرين. وكنا ذرية ضعفاء من بعدهم ومن المستضعفين.
ولما مكر ” الخالصة” مكرهم، وأخرجوا آباءنا من ديارهم، توفي جدي في الغربة، وبقي أبي يتيما غريبا مسافرا خاوي الوفاض، يجوب طرقات البلاد مثل الهائم ما يدري ما الشمال ولا اليمين. وكان شغل أبي في تلك الأيام مكابدة صعوبة الأسفار أو مطالعة الأسفار.
ثم بعد تراخي الأمد وتلاقي الكمد، قصد كشمير يستقري أسباب المعاش.
وقد اتفق في تلك الأيام أن ربي ألبسني خلعة الوجود، ونقلني من زوايا الكتم إلى مناظر الشهود، وصرت على مسقط رأسي من الساجدين. وكانت هذه الأيام التي بدل الله أبي من بعد خوفه أمنا، ومن بعد عسره يسرا، وصار من المنعمين.
وسمعت أمي تقول لي مرارا: إن أيامنا بُدّلت من يوم ولادتك، وكنا من قبل في شدائد ومصائب، وأنت من المباركين.
وكان أبي يعرج من مرتبة إلى أخرى، ومن عالية إلى عليا، وصار من المتمولين.
ثم غلب عليه تذكار الوطن، والحنين إلى المسارح المهجورة والعطن، فقوّض خيام الغربة والغيبة، ورجع سالما غانما إلى العِترة بنضرة وخضرة ومتاع وأثاث، رحيب الباع، خصيب الرِّباع.
ثم عزم أبي على أن يسبر بخته في الزراعات، فاستحسن لنفسه اتخاذ الضياع، والتصدي للازدراع، فأحمدَ بفضل الله معيشتُه، واسترغدَ فيها عيشتُه، ورُدّ عليه قليل من القرى، التي غُصبت من الآباء في زمن خلا.
هذا قليل من سوانح أيام ولادتي وصغر سني. ولما ترعرعتُ ووضعتُ قدمي في الشباب، قرأتُ قليلا من الفارسية، ونبذة من رسائل الصرف والنحو وعدة من علوم تعميقية، وشيئا يسيرا من كتب الطب.
وكنت أحب زمرة الروحانيين. وكنت أجد قلبي مائلا إلى القرآن ودقائقها ونكاتها ومعارفها.
ووالله إنه دُرّة يتيمة. ظاهره نور، وباطنه نور، وفوقه نور، وتحته نور، وفي كل لفظه وكلمته نور.
وقد حُبّب إلي منذ دنوت العشرين أن أنصر الدين، وأجادل البراهمة والقسيسين. وقد ألفت في هذه المناظرات مصنفات عديدة، ومؤلفات مفيدة، منها كتابي: البراهين.
ولما بلغت أشد عمري وبلغت الأربعين سنة، جاءتني نسيم الوحي بِرَيَّا عنايات ربي، ليزيد معرفتي ويقيني، ويرتفع حجبي وأكون من المستيقنين. فأول ما فتح عليّ بابه هو الرؤيا الصالحة، فكنت لا أرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ورأيت في غُلَواء شبابي وعند دواعي التصابي، كأني دخلتُ في مكان وفيه حفدتي وخدمي، فقلتُ: طهّروا فراشي، فإن وقتي قد جاء. ثم استيقظتُ وخشيت على نفسي وذهب وَهْلي إلى أنني من المائتين.