

أيها الإخوان، قد أُلقيَ ببالي، من بعد ما نمقتُ مكتوبي وأتممت مقالي، أن أكشف القناع عن بعض سوانحي وسوانح آبائي، لتعلموا ما أسبغ الله عليّ من العطاء.. ولكي يحصل لكم بصيرة تامة في أموري ومهامي، ويتضح وينكشف عليكم مسكني ومستقري ومقامي، ولعل الله يقلب قلوبكم وتأتوني مسترشدين، أو تراسلونني وتسألون.
فاعلموا.. أيدكم الله.. أن آبائي كانوا الفارسيين أصلا ومن سادة القوم وأمرائهم. ثم قادهم قضاء الرحمن إلى بلدة “سمرقند”، فلبثوا فيه برهة من الزمان، والله يعلم بما لبثوا.. ثم بدا لهم أن يسيروا إلى أرض الهند، فسافروا من وطنهم، وانحدروا إلى بعض أضلاع منها يقال لها “فنجاب”، ووجدوا في بعض نواحها أرضًا طيبة مخصبة.. فألقوا بها عصا التسيار، ونزلوا فيها بنية الاستقرار، وكانوا متغربين في نفر من قومهم.. منهم السادة ومنهم الخادمون. فآواهم الله في تلك الأرض، وبوّأهم مبوّأ عزة، ومكّنهم. فعمروا فيها قرية، وسموها: “إسلام بور” (المعروف بقاديان)، ذلك بأنهم أرادوا أن يُسكنوها جماعة المسلمين من أعزتهم، ليكون بعضهم لبعض ظهيرا.. وسكنوها وتملكوا، وكان هذه الواقعة في أيام دولة ملوك الجغتائية، الذين كانوا من أقوام الجيل، وكان زمام الحكومة بيد الملك “بابر”.. فأعزهم وأكرمهم، وأعطاهم قرى كثيرة.
فرَقُوا في مدارج الإقبال، وزادوا أموالا وأراضي وإمارة..وكانوا يتقون الله، وفي سبيل الخير يسلكون.
وبعد ذلك الأيام.. قُلّب أمر سلطنة الإسلام، وتطرق الاختلال والضعف فيها، ليصيب الذين أجرموا من الملوك صغار من عند الله، وعذاب شديد بما كانوا نسوا حدود الله، وبما كانوا يعتدون.
وكان بعضهم كمثل الذين ارتدوا من دين الإسلام، وخلعوا عنهم رداء أسوة خير الأنام.. فغضب الله عليهم، ومزق ملكهم، وجعله عضين، وبعث أقواما كانوا يبسطون أيديهم إلى ممالكهم ويقتسمون.
وكان ذلك الزمن زمان طوائف الملوك.. وكان آبائي منهم، يأمرون على ثغرهم، وكان يُرفَع إليهم ما وقع في رعاياهم، فكانوا يحكمون كيف يشاؤون، ولا يخافون إلا الله.
ثم نُقل صلحاء آبائي إلى جوار رحمة الله، وخلَف من بعدهم قوم أضاعوا الصالحات المسنونات، وما رعَوها حق رعايتها، وكانوا لدنياهم يلتاعون.
ونظر الله إليهم فوجدهم كأجساد لا أرواح فيها، فاقتضت حكمة الله تعالى لينبههم، وأراد أن ينزع الملك منهم، ويؤتي قوما من عبدة الأوثان كانوا يسمون أنفسهم ” الخالصة”، وكانوا أميين لا يعلمون شيئا ولا يعقلون.
فأهاج الله تقريبات عجيبة لنصرتهم وإقبالهم، وإزعاج شجرة المسلمين وحطمهم، ليعلموا أنهم فسقوا أمام ربهم وأنهم ظالمون.
فقام “الخالصة” بجميع الجهد والهمة ليستأصلوا المسلمين، وأعانهم الله عونا عجيبا. ففي هذه الأيام صبت على آبائي حوادث ونوازل، واستولى “الخالصة” على بلادهم وجاسوا ديارهم.. وكان المسلمون ينظرون إليها ويبكون.
وكان المسلمون مظلومين مجروحين مغصوبين مضروبين كل الأيام، وما كان لهم محيص ولا مناص، ولا مخلّص ولا راحم، وكانوا من كل باب يُطْرَدون.
فتاب المسلمون إلى ربهم، وطرحوا بين يدي مولاهم الكريم، وكانوا في المساجد يخرون على المساجد، ويدعون عليهم، ولكشف هذا الرجز يتضرعون. وقد قتل ألوف منهم بما أذّنوا وصلّوا، وذبحوا بقرة أو عقروا.. حتى صعد إلى العرش عويل اليتامى، ونياح الأرامل، وضجيج الضَّعفة، وارتعدت الأرض تحت أقدام الكفرة، وأخذت المقربون أذيال رحمة الله وهم يشفعون.
فلما اجتمعت أدعية الضعفاء والمضطرين في حضرة الله تعالى، ولحقت بها توجهات المقربين.. أجيبت الدعوات، وسمعت التضرعات، واشتد غضب الله تعالى على “الخالصة” وقضى بهلاكهم وهم غافلون.
فأراد الله أن يأسو جروح المسلمين، ويفك رقبتهم من نير الظالمين.. فدعا قوما من أقصى الأرض، فنسَلوا إلى دُويرتهم الخريبة، ينقصونها من أطرافها، ونزلوا بعراء بلدة اسمها: “فيروز بور”، وكان المسلمون بِرَيّا قدومهم يفرحون. فما كان “للخاصلة” الدنية أن يقاوموهم أو يحاربوهم، وألقى الله عليهم الفشل.. وأقرّ الله أعين المسلمين برؤية رايات أنصارهم، ودُققت ” الخالصة” على وجه الأرض.
