بقلم الأخت: فاتنة مناع عودة

حضرة رئيسة اللجنة المحترمة، أمهاتي الكريمات، أخواتي العزيزات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سوف أتحدث في كلمتي عن شخصية النبي محمد (ص) نبي الرحمة ورجل الحب والسلام. فقد جمع (ص) في شخصه الفضائل كلها، والمكارم جميعها، والمحامد بأكملها.

فكانت سيرته (ص) من أجمل السير، وصفاته من أنبل الصفات، وأخلاقه من أعظم الأخلاق، كيف لا! وهو القائل إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وقد شهد الله له: وإنك لعلى خلق عظيم. فمنذ أن بعثه الله تعالى للناس نبيًا ورسولا كانت حياته صورةً صادقةً للدين الذي جاء به من عند الله. وما أجمل ما وصفته السيدة عائشة (ر.ض) عندما سئلت عنه فقالت: “كان خلقه القرآن”.

أي أنه كان (ص) قرآنًا حيًّا متحركًا، ملتزمًا بأحكامه، عاملاً بتوجيهاته، متبعًا لهديه، ومنتهيًا عند نهيه. يدعو إلى نوره ويحتكم إلى شريعته، ومن أجل ذلك قال الله تعالى عنه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً”. (الأحزاب 21)

والمطلع على سيرة النبي (ص) يدرك أنها فعلاً كانت حقيقة تاريخية يصدقها التاريخ الصحيح ولا ينكرها وهي في نفس الوقت سيرة عملية قابلة للتطبيق من قبل البشر في جميع أحوال الحياة، في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان.

فالرسول (ص) هو المثل الأعلى للإنسانية، وقدوة الرجال وحبيب الله ورحمة العالمين وأساس سلم العالم.

“يا أيها الذين آمنو صلوا عليه وسلموا تسليماً”

محمد نبي الرحمة …

لقد كان (ص) يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله، بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين بموجب قوله: ” ما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين”. فكانت رحمته (ص) شاملةً للوجود بأجمعه يستطيع المؤمنون الإستفادة من هذه الرحمة، التي كان يمثلها النبي (ص). فهو بالمؤمنين رؤوف رحيم. وكذلك الكافرون والمشركون يستطيعون الإستفادة من رحمته (ص) فعندما طُلب من حضرته (ص) في إحدى المناسبات أن يدعو على المشركين قال (ص): “إني لم أبعث لعاناً بل بعثت رحمةً”. لقد كانت رحمة النبي (ص) قبل غضبه بل إنه في الحرب كان يقاتل بشجاعة ولكنه كان أيضاً صاحب شفقة عظيمة، ومروءة وقلب كبير.

ففي غزوة أحد وهو في أصعب الظروف وأحرجها خلال المعركة، وبينما كان المشركون جادين في حملتهم للنيل من الرسول (ص), فشملت أسرته وأمته, فكان حضرته (ص) خير الناس وخيرهم لأهله وأمته, من طيب كلامه وحسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام. حيث جاء على لسانه (ص): “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.

كما أن رحمته الواسعة تجلت في معاملاته، فكان لطيفاً رحيماً يرحم الصغير والكبير، ويعطف على الجليل والحقير، ولا يجرح ولا يعنف، ولا يشهر ولا يكسر الخواطر، ولم يكن جباراً، ولا فاحشاً متفحشاً، ولا فظ اللسان. بل كان يعفو ويصفح دائما. فعن عائشة (ر.ض) قالت: ” ما ضرب رسول الله (ص) خادماً له، ولا امرأة، ولا يضرب بيده شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله”. ولا نجد في المصادر أي ذكر عن خشونته للسيدات في أي علاقة معهن، بل تؤكد المصادر أنه (ص) كان يساعد زوجاته في أعمال المنزل اليومية. فكان يخيط ثيابه الخاصة بنفسه، ويصلح حذاءه بنفسه، ويقوم لتناول الماء لنفسه كلما احتاج إليه، ولم يطلب من أحد شيئاً كان بحاجة إليه، بل قام إليه وفعله بنفسه.

إن رحمة النبي الكريم (ص) امتدت لتصل الأعداء والمعاندين وأولئك الذين آذوه بكل قسوة وحاصروه في شعاب أبي طالب ومنعوا عنه الطعام والماء وتسببوا في وفاة زوجته خديجة (ر.ض) وعمه أبو طالب، وأخرجوه من بلده مكة.

فعندما دخل الرسول (ص) مكة فاتحاُ مع صحابته كان حضرته (ص) نموذجاً للرحمة، التي لا مثيل لها على وجه الأرض.

فقد سأل أهل مكة: “ما ترون أني فاعل بكم؟ فأجابوه خيراً، أخ كريم, وأبن أخ كريم”. فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته “لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”. “إذهبوا فأنتم الطلقاء”.

أخواتي الكريمات أقدم لكن حادثة أخيرةً تبين عظمة الرسول الرحيم (ص) مع أشد الأعداء والمعاندين ثمامة بن آثال ملك اليمامة، وكيف تعامل الرسول معه برحمة وعطف وحكمة حتى استدرجه إلى الاسلام.

فقد كان ثمامة مشركاً، ولما سمه بالإسلام نال من أصحاب رسول الله ما نال, وعندما أراد ثمامة بن آثال الذهاب إلى مكة ليطوف حول البيت ويذبح لأصنامها, مر بالمدينة المنورة فوقع بيد المسلمين وجيء به للرسول (ص). فطلب النبي الكريم (ص) أن يكرموه ويحسنوا إليه. ثم ذهب النبي إلى أهله وقال: “اجمعوا ما كان عندكم من طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن آثال, ثم توجه إليه النبي ليستدرجه إلى الإسلام فقال: ” ما عندك يا ثمامة”. قال: عندي يا محمد خير, فإن تقتل, تقتل ذا دم” – أي رجل أراق منكم دماً, وإن تنهم تنعم على شاكر, وإن كنت تريد المال, فسل تعطى منه ما شئت, فتركه رسول الله يومين على حاله, يؤتى إليه الطعام والشراب, ويحمل إليه لبن الناقة, ثم جاءه فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال ما قال من قبل، تركه رسول الله (ص) حتى إذا كان اليوم التالي جاءه فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال عندي ما قلت لك. فالتفت النبي (ص) إلى أصحابه وقال: أطلقوا ثمامة ففكوا وثاقه وأطلقوه.

فلما غادر ثمامة مسجد رسول الله (ص) وسار في طريقه أناخ ناقته بجوار ماء ثم تطهر ورجع إلى المسجد حتى وقف على ملأ من المسلمين وقال: أشهد أن لا إله الا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم أتجه إلى رسول الله (ص) وقال:” يا محمد والله ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض علي من وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينكم أحب الدين إلي. والله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. ثم قال يا رسول الله لقد كنت أصبت في أصحابكم دما فما الذي توجبه علي؟ فقال (ص):” لا تثريب عليك يا ثمامة”.

ثم علمه النبي (ص) أداء العمرة الشرعية، واتجه إلى مكة فطاف حول الكعبة وهو يقول بصوت عال “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.

فكان أول مسلم على وجه الأرض دخل مكة ملبياً, سمعت قريش فهبت غاضبة مذعورةً, وأسلت السيوف, ولما أتجه القوم إلى ثمامة رفع صوته بالتلبية بكبرياء فلما رأوا ثمامة أرجعوا سيوفهم إلى أماكنها وقالوا: “ما بك يا ثمامة أتركت دينك ودين آبائك”. قال: “لكني اتبعت خير دين, اتبعت دين محمد”, ثم قال ايضاً: أقسم برب هذا البيت أنه لا يصل إليكم بعد عودتي إلى اليمامة حبة من قمحها أو شيئاً من خيراتها, حتى تتبعوا محمداً عن آخركم, ثم ذهب إلى أهله وأمرهم أن يمنعوا عن أهل مكة, فاستجابوا له وحبسوا خيراتهم عن أهل مكة, ولما أشتد ذلك على أهل مكة, أرسلوا إلى رسول الله (ص) أن يكتب إلى ثمامة, فكتب (ص) إلى ثمامة أن يفك عنهم الحصار ففعل.

هذا هو محمد نبي الرحمة. وهذه هي رحمته التي شملت كل الناس. ما أكرمه من نبي وما أرحمه من إنسان، ملئت حياته بالرحمة والحب، حب الله وحب الخير وحب الصلاح والصالحين وحب الإنسانية جمعاء.

هذا أخواتي الكريمات قليل من كثير ونقطة من بحر من سيرة البشير النذير، السراج المنير، فما أحوجنا أن نربي على هذه السنة والأخلاق الكريمة صغارنا وكبارنا.

يا رب صل على نبيك دائماً                           في هذه الدنيا وبعث ثان يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم إنك حميد مجيد.